الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} لما سمع جواب ما طعن به فيه ورأى أنه لم يرعو بذلك شرع في الاعتراض على دعواه فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل.{قَالَ رَبُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} عرفه بأظهر خواصه وآثاره لما امتنع تعريف الأفراد إلا بذكر الخواص والأفعال وإليه أشار بقوله: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها علمتم أن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها، فلها مبدىء واجب لذاته وذلك المبدىء لابد وأن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب، أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال ثم ذلك الواجب لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته.{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} جوابه سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله، أو يزعم أنه {رَبّ السموات} وهي واجبة متحركة لذاتها كما هو مذهب الدهرية، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر.{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأولين} عدولًا إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه مثله ويشك في افتقاره إلى مصور حكيم ويكون أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل.{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وسماه رسولًا على السخرية.{قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا} تشاهدون كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات. {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك لاينهم أولًا، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم.{قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} عدولًا إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج، واستدل به على ادعائه الألوهية وإنكاره الصانع وأن تعجبه بقوله: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} من نسبة الربوبية إلى غيره، ولعله كان دهريًا اعتقد أن من ملك قطرًا أو تولى أمره بقوة طالعه استحق العبادة من أهله، واللام في {المسجونين} للعهد أي ممن عرفت حالهم في سجوني فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من لأسجننك.{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} أي أتفعل ذلك ولو جئتك بشيء يبين صدق دعواي، يعني المعجزة فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته والدلالة على صدق مدعي نبوته، فالواو للحال وليها الهمزة بعد حذف الفعل.{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في أن لك بينة أو في دعواك، فإن مدعي النبوة لابد له من حجة.{فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ظاهر ثعبانيته واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء فانثعب إذا فجرته فانفجر.{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء للناظرين} روي أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال فهل غيرها، فأخرج يده قال فما فيها فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.{قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ} مستقرين حوله فهو ظهر وقع موقع الحال. {إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} فائق في علم السحر.{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} بهره سلطان المعجزة حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مؤامرة القوم وائتمارهم وتنفيرهم عن موسى وإظهار الاستشعار عن ظهوره واستيلائه على ملكه.{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أي أخر أمرهما. وقيل إحبسهما. {وابعث فِي المدائن حاشرين} شرطًا يحشرون السحرة.{يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} يفضلون عليه في هذا الفن وأمالها ابن عامر وأبو عمرو والكسائي، وقرئ {بكل ساحر}.{فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة.{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثًا على مبادرتهم إليه كقول تأبط شرًا:
أي ابعث أحدهما إلينا سريعًا.{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا والترجي باعتبار الغلبة المقتضية للاتباع، ومقصودهم الأصل أن لا يتبعوا موسى لا أن يتبعوا السحرة فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.{فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ المقربين} التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن أغلبوا فإذا على ما يقتضيه من الجواب والجزاء، وقرئ {نِعْمَ} بالكسر وهما لغتان.{قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} أي بعدما قالوا له {إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين}، ولم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه بل الإِذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلًا به إلى إظهار الحق.{فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإِتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.{فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تبتلع، وقرأ حفص {تَلْقَفْ} بالتخفيف. {مَا يَأْفِكُونَ} ما يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، أو إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة.{فَأُلْقِيَ السحرة ساجدين} لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئًا لا حقيقة له، وأن التبحر في كل فن نافع. وإنما بدل الخرور بالإِلقاء ليشاكل ما قبله ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما خولهم من التوفيق.{قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين} بدل من {ألقي} بدل الاشتمال أو حال بإضمار قد.{رَبّ موسى وهارون} إبدال للتوضيح ودفع التوهم والإِشعار على أن الموجب لإِيمانهم ما أجراه على أيديهما.{قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} فعلمكم شيئًا دون شيء ولذلك غلبكم، أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم عليه، وأراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وروح {أأمنتم} بهمزتين. {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبال ما فعلتم وقوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} بيان له.{قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} لا ضرر علينا في ذلك. {إِنَّا إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} بما توعدنا به فإن الصبر عليه محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى، أو بسبب من أسباب الموت والقتل أنفعها وأرجاها.{إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا} لأن كنا. {أَوَّلَ المؤمنين} من أتباع فرعون، أو من أهل المشهد والجملة في المعنى تعليل ثان لنفي الضمير، أو تعليل للعلة المتقدمة. وقرئ {إِن كُنَّا} على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة، أو على طريقة المدل بأمره نحو إن أحسنت إليك فلا تنس حقي. اهـ. .قال الخطيب الشربيني: سورة الشعراء:مكية إلا قوله والشعراء. إلى آخرها فمدنية وهي مائتان وست وعشرون آية وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة وإثنان وأربعون حرفًا.روى البغويّ عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال أعطيت طه والطواسين من ألواح موسى.عليه السلام {بسم الله} الذي دلّ علوّ كلامه على عظمة شأنه وعز مرامه {الرحمن} الذي لا يعجل على من عصاه {الرحيم} الذي يحي قلوب أهل ودّه بالتوفيق لما يرضاه.{طسم} قال ابن عباس: عجزت العلماء عن علم تفسيرها، وفي رواية عنه: أنه قسم وهو من أسماء الله تعالى. وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن وقال مجاهد اسم السورة، وقال محمد بن كعب القرظي: أقسم بطوله وسناه وملكه، ولهذا الاختلاف قال الجلال المحلي: الله أعلم بمراده بذلك، وقد قدمنا الكلام على أوائل السور في أول سورة البقرة وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بإمالة الطاء، والباقون بالفتح، وأظهر حمزة النون من سين عن الميم، وأدغمها الباقون وهي في مصحف عبد الله بن مسعود ط س م مقطوعة من بعضها.{تلك} أي: هذه الآيات العالية المرام الحائزة أعلى مراتب التمام المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات ألسنتكم {آيات الكتاب} أي: القرآن الجامع لكل فرقان {المبين} أي: الظاهر إعجازه المظهر الحق من الباطل ولما كان عنده صلى الله عليه وسلم من مزيد الشفقة وعظيم الرحمة على قومه قال تعالى تسلية له.{لعلك باخع} أي: هالك {نفسك} غمًا وأسفًا من أجل {ألا يكونوا} أي: قومك {مؤمنين} أي: راسخين في الإيمان أي: لا تبالغ في الحزن والأسف فإن هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ ولو شئنا لهديناهم طوعًا أو كرهًا. والبخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالخاء والباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذابح. ولعل: للإشفاق أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إيمان قومك فصبره وعزاه وعرفه أن حزنه وغمه لا ينفع كما أن وجود الكتاب ووضوحه لا ينفع، ثم إنه تعالى أعلمه بأن كل ما هم فيه إنما هو بإرادته بقوله تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم} وعبر بالمضارع فيهما إعلامًا بدوام القدرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون الثانية وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، ثم قال تعالى محققًا للمراد {من السماء} أي: التي جعلنا فيها بروجًا للمنافع، وأشار إلى تمام القدرة بتوحيدها بقوله تعالى: {آية} أي: قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه.تنبيه:هنا همزتان مختلفتان، أبدل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية المفتوحة بعد المكسورة ياء خالصة، وحققها الباقون. ثم أشار تعالى إلى تحقق هذه الآية بالتعبير بالماضي في قوله تعالى عطفًا على ننزل لأنه في معنى أنزلنا {فظلت} أي: عقب الإنزال من غير مهلة {أعناقهم} أي: التي هي موضع الصلابة وعنها تنشأ حركات الكبر والإعراض {لها خاضعين} أي: منقادين.تنبيه:خاضعين: خبر عن أعناقهم، واستشكل جمعه جمع سلامة لأنه مختص بالعقلاء؟ وأجيب عنه بأوجه: أحدها: أن المراد بالأعناق رؤساءهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال لهم الرءوس والنواصي والصدور، قال القائل:ثانيها: أنه على حذف مضاف أي: فظل أصحاب الأعناق ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف المخبر عنه مراعاة للمحذوف.ثالثها: أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله: رابعها: قال الزمخشري: أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهبت أهل اليمامة كأن الأهل غير مذكور، ونوزع في التنظير لأنّ أهل ليس مقحمًا البتة لأنه المقصود بالحكم.خامسها: أنها عوملت معاملة العقلاء، كقوله تعالى: {ساجدين} [يوسف] {وطائعين} [فصلت] في يوسف والسجدة، وقيل إنما قال تعالى: {خاضعين} لموافقة رءوس الآي لتكون على نسق واحد.
|